إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
أخيرا احتفلت إفريقيا، واحتفل الأفارقة بخمسينية الاستقلال، فبلغت إفريقيا بذلك مبلغ الرشد مضيفةً إليه عقداً كاملاً من الزمان.
فماذا حققت إفريقيا خلال خمسة عقود من الحرية، والقيادة الذاتية، ؟
بنظرة عاجلة إلى تحليلات المحللين الأفارقة “المستقلين” الذين أرهقوا أقلامهم وحناجرهم وملئوا صحفهم ومجلاتهم بتلك التحليلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية ندرك مدى قتامة الوضع .
• ففي مجال إقامة البنية التحتية،، ذكروا ضعفاً عاما نال جوانبَ من الأهمية بمكان، فالتعليم لا زال يعاني من الافتقار إلى سياسة تعليمية واضحة المعالم، هادفة إلى بناء جيل قادر على المنافسة في عصر لا مكان فيه لجاهل أو متقاعس غير مكان التبعية والتقليد الزائف.
وقلْ مثل ذلك في الافتقار إلى المراكز الجادة للبحث العلمي المتخصص والتي شاءت الحضارة المعاصرة أن لا تقوم إلا على بنيانها المرصوص.
• وفي مجال الرعاية الصحية ضعفٌ آخر تشهد له رحلات كل القادرين إلى الخارج لتلقي العلاج في أبسط الأمراض التي ربما كان أجدادنا قد كشفوا عن دواء لها قبل قدوم الاستعمار!
• وفي مجال بناء الطرق ووصل شبكاتها ببعضها داخل أحشاء البلاد نجد حالات مخزية تجعل المرء – إذا قدر له أن يخرج يوما ما إلى بلاد الآخرين- يتساءل: لماذا نحن هكذا وهم كذلك؟
• وفي مجال الطاقة –التي هي عصب التنمية الاقتصادية بلا منازع- نجد أن ربع السكان حتى يجدوا بعض حاجتهم من الطاقة الكهربية يلزم ثلاثة أرباعهم أن يصبروا ريثما يصطلي إخوانهم قبل أن يأتي دورهم.
• وقل مثل ذلك في التجارة والزراعة والصناعة كلها تسير سيرا أعرج من سيء إلى أسوأ منذ خمسين عاما .
هذه صورة المصورين الذين كان همهم الأكبر هذه الأمور الحياتية التي لابد للحي من الاهتمام بها، لكنها مهما بلغت من الأهمية فليست كل شيء، وكان من دعاء الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام : “اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا”
نرجع البصر كرة أخرى إذاً إلى الحالة الدينية، علما بأن هذا البلد النموذج بلدٌ إسلاميٌّ عرف الإسلام وتفيأ تحت ظلاله الوارفة منذ ما يزيد على عشرة قرون من الزمان، وكان حرا طليقا مستقلا يحكم نفسه قبل ورود ذاك الغريب الدخيل المدعو “الاستعمار الغربي” وبذلك يكون ماضي هذا البلد ضارباً في جذور التاريخ على نحو أعمق بكثير من نصف قرن خرج منه ذلك الدخيل بعد استنزاف خيراته، وتخريب مكتسباته، وتحويل عقول أبنائه، وبسط سلطانه وثقافته على أرضه.
إن الذي ينظر إلى حالة الإسلام والمسلمين في هذا البلد الزائدة نسبة سكانه على الستة والتسعين من كل مائة نفس ليمتلكه الأسى وهو يتأمل المشهد الديني:
• لم يخرج المستعمر إلا بعد أن عمل على تعميق الخلاف بين الطوائف الدينية، فحث على إحياء إسلام قومي يحمل كلَّ بيت ديني على الاعتزاز بتراث أجداده دون سواه،وربما كان بعض هذا التراث على حساب ما جاء في الكتاب والسنة ، فأوجد في الصف الإسلامي فجوة خلافٍ لم تسد إلى يومنا هذا، بل إنها تزداد اتساعا مع الزمن.
• استبشر المسلمون بإدخال التربية الدينية مؤخرا بمبادرة الرئيس عبد الله واد فتم تطبيق هذا التوجيه منذ أكتوبر 2002م وقبل ذلك لم يكن هناك أي لون للتربية الدينية في مدارس التعليم العام، ومادة اللغة العربية التي كانت مقررة على المدارس الابتدائية كانت خالية من الدين، بل لم تكن جرأة مدرس اللغة العربية لتصل إلى كتابة البسملة على سبورته، غير أن هذه المبادرة الكريمة في حاجة إلى التوسعة لتصل إلى الإعدادية، والثانوية، كما تفتقر إلى مستند قانوني يضمن له البقاء، وإلا ظلت مبادرةً شخصيةً قابلةً للبقاء والزوال حسب مرئيات المعني بذلك.
• المدارس القرآنية الأهلية الجادة في هذا البلد أكثر من 1200 مدرسة، تخرِّج سنويا أكثر من ألف حافظ وحافظة لكتاب الله، ويتلقى معظم الطلاب في هذه المدارس قسطا حسنا من العلم الشرعي، وهذه المدارس تفتقر إلى الحد الأدنى من العناية من طرف المسئولين، فهي إلى الآن تمثل جهودا شعبية، ومبادرة من الأهالي ومن المعلمين، فليست هناك إدارة خاصة تتولى شئونها من حيث التدريب والتوجيه، أو تعنى بالتنظيم والتقويم، أو سن القوانين الضابطة لهذا النشاط، لكيلا يطرق بابه من ليس من أهله،، ولا يوجد شيء مقنن ومنظم في مجال تقديم المساعدات لها، وهذا الأمر ساعد إلى جانب عوامل أخرى على تنامي عدد الأطفال المتسولين، إلى ثمانمائة ألف طفل متسول في العاصمة حسب بيان اليونيسيف أبريل 2010م.
• أما خريجو الجامعات العربية فحدث عنهم ولا حرج، فمعظمهم قوم خاطروا بحياتهم وما ملكوا في سبيل الالتحاق بتلك الجامعات، وبذلوا من الجهد في طلب العلم والبحث أضعاف ما يبذله غيرهم من أبناء هذا البلد الذين قدر لهم أن اتجهوا وجهة أخرى، ثم عادوا ليفاجؤوا بأنهم كما خاطروا بحياتهم وممتلكاتهم من قبل، سيخاطرون مرة أخرى بمستقبلهم حسب المقاييس البشرية، فكان عليهم أن يبذلوا من الجهد في سبيل العيش أضعاف ما بذلوا من قبل بعيدين عن أي حق في الاعتبار كمواطنين صرفوا طاقتهم في سبيل العلم، فأصبحنا نرى مشاهد مخزية مبكية مضحكة،، أشخاصا يحملون شهادات الماجستير والدكتوراه في أدق التخصصات العلمية والتربوية والتعليمية، وربما مارسوا التعليم في البلدان التي درسوا فيها سنين عددا، ثم يوجهون للتدريس في الثانويات بعد إخضاعهم لتدريب أشبه ما يكون بعملية غسيل للمعنويات العالية التي وصلوا بها إلى بلادهم .
نعم لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن بلداننا قد اتخذت من لغة المستعمر لغة إدارية، ومن ثقافته ثقافة عامة، فكان من غير المستغرب أن تكون فرصة الدارسين لتلك اللغة أفضل من غيرهم ولكن ذلك لا يفسر بعدل تهميش شريحة كبيرة لا يستهان بها مؤهلة علميا في تخصصات تحتاج إليها الأمة، بحجة اختلاف اللغة، فأين الاستقلال؟ وأين الحرية؟
أخيرا: إن هذه القارة في حاجة إلى رجال يعملون أكثر مما يتكلمون، إلى قادة ميدانيين يقدمون مصلحة البلد على المصالح الشخصية، وأن ينطبق هذا الوصف على كل القيادات الدينية والإدارية على حد سواء، وأن تتكاتف جهود من حولهم من الأتباع والمساعدين لتحقيق النهضة العامة التي تحتاجها إفريقيا لتأخذ مكانتها بين الأمم، ولا يتم ذلك دون بذل الكثير من الجهد والتضحية تحت قيادات دينية وإدارية رشيدة.
غرة شهر جمادى الأولى 1431هـ
والسلام عليكم و رحمة الله