إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد شهدت العاصمة السنغالية داكار مؤخرا [1] مؤتمرا لـ” علماء إفريقيا “ دعا إليه رئيس الجمهورية الأستاذ عبد الله واد الرئيس الدوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وفي خطابه الافتتاحي للمؤتمر عرج الرئيس على موضوعات مثيرة، وأثار قضايا كبيرة، ثم انتظر من ” العلماء ” البت فيها خلال مؤتمرهم، ووعد بالسعي لتنفيذ ما يتوصلون إليه من رؤى ومقترحات.
وكان من بين الموضوعات التي أثارها الرئيس “واد “موضوع الأموال الربوية المتراكمة في البنوك الغربية من حسابات المسلمين، وذكر أن تلك الأموال تقدر بما يزيد على 500 مليار دولار أمريكي، ثم تساءل : لم لا تسحب هذه الأموال وتصرف في مصالح المسلمين العامة؟ وانتظر من المؤتمرين جوابا يمكن الاعتماد عليه في هذا الأمر الهام.
و الحقيقة أن هذه المسألة حظيت باهتمامات المؤتمرين، كما تناولتها أقلام الصحافة التي استغربت في أعدادها الصادرة في اليوم التالي للافتتاح كيف سكت ” العلماء” وهم يستمعون إلى الرئيس وهو يبيح الربا؟ !
وأثناء التداولات كان مقيد هذه السطور من بين من رأوا أن ما ذهب إليه الرئيس لا مانع منه من الناحية الشرعية،، وأن هناك فرقا كبيرا بين هذا القول، وبين إباحة الربا.. وأصبح هذا القول هو المنصور في نهاية هذا المؤتمر، وهو في الحقيقة ليس رأيا للمؤتمرين ولكنه مقتضى فتاوى عدد كبير من العلماء السابقين، بالإضافة إلى المجامع الفقهية، وفتاوى المحققين من العلماء المعاصرين.
ومقيد هذه السطور شارك بعد المؤتمر مباشرة في برنامج تلفزيوني فضائي مخصص لتقويم نتائج المؤتمر، ومدارسة عدد من المسائل، من بينها مسالة هذه الفوائد الربوية، وانتهى البرنامج وسط استحسان المشاهدين حيث انهالت مكالماتهم على هاتفه من الداخل والخارج، ولم يعكر صفو ذلك سوى صوت رجل لم يحضر المؤتمر وجلس على أريكته متصلا بإحداى الإذاعات الأهلية، فكال المشاركين في البرنامج عامة وكاتبَ هذه السطور خاصة بوابل من التهم أدناها إباحة الربا الصريح، وأعلاها مجاراة الحكام في مذاهبهم وأهوائهم .. وتناول علماء الأمة بعبارات التهكم والسخرية، عبر منبر لا يكاد يتحاور فيه غير العوام والدهماء، إن هذا الرجل – والحق يقال- قد آذى نفسه كثيرا، وعبث بحرمته ومكانته التي كان يحتلها في قلوبنا قبل تلك المكالمة، لا لأنه خالف في هذه المسألة، ولكن لأسلوبه في الخلاف، وطريقة عرضه لآرائه على نحو لا يليق بمثله.
ألم يكن بوسعه – إن كان قصده النصح والتوجيه – أن يتصل بي مباشرة ويقول ما بدا له أن يقول، ثم يصغي إلى الجواب؟ و يعلم الله أنه لو طلب حضوري إليه للتباحث – قبل إقدامه على ما أقدم عليه- لحضرت
أما ما وجهه إلينا وإلى علماء الأمة من إساءة تتعلق بمجاراة الحكام في أحكام الله، فإنه يصب في قالب ما شاع في هذا الزمن من ظن بعض المصابين في الفهم والتصور بأن الحق ما قال بضده الحاكم، وأن الباطل يدور مع الحكام حيثما داروا، وهي نظرة سلبية، ونزعة خارجية، انتشر شرها، وعم ضررها ،ومس شررها عددا من “الإسلاميين” لا يستهان به.
وشأن هذا الرجل – بهذا التصرف – أقل من أن أسطر سطرا في الرد على تفاصيل ما تفوّه به، ولكني سوف أكتفى بتوضيح مسألة الفوائد الربوية، تجليةً للحق،ودرءً لمفسدة قد يتأثر ببليتها من ينتطلي عليه كلام من يهرف بما لا يعرف ، ودفاعاً عن العلماء السابقين واللاحقين الذين مسهم الضر بتوجيه تهمة إباحة الربا إليهم بسبب هذه المسألة العلمية، وسميت الورقة بـ:
كشف القناع، عن حكم التصرف بالربا الناتج عن الإيداع
.
وحتى نؤصل لهذه المسألة نقول :
أولا: ما هي ضوابط إيداع المال في البنك الربوي؟
الجواب: يباح ذلك في الظروف والأوضاع التالية:
- عند عدم وجود بنك إسلامي خال من التعاملات الربوية.
- أن توجد ضرورة ملجئة إلى إيداع المال في البنك الربوي، كحفظه من الضياع، والسرقة والحريق.
- أن لا يكون الإيداع فيه ذريعة إلى الاستمرار، وترك البحث عن حلول إسلامية.
- أن يعقد مع البنك عقدا خاليا من الربا إن أمكن، وبذلك يكون قد استعمل الضرورة على قدرها، وقدرها هنا حفظ المال، والضرورة تقدر بقدرها، وهذا هو الواجب المتعين عليه؛ لأنه لا يجوز للمضطر أن يوقع مع البنك عقدا ربويا طالما أن البنك لا يجبره على ذلك، فإن الله عز وجل نهانا عن الربا ، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ البقرة279- 278
ثانيا: ما حكم التصرف في الربا الناتج عن الإيداع في البنك الربوي؟
تطرح هذه المسألة في حالتين:
الأولى: أن يكون هذا المال قد تحقق تحصيله في الحساب لجهل هذا المودع بأحكام الربا، وأراد أن يتوب وينقل ماله إلى بنك إسلامي، أو أراد أن يغير حسابه من حساب ادخار ربوي إلى حساب جار خال من الفائدة الربوية، أو بعبارة أخرى، أن يكون المودع قد وجد حلا للخروج من المراباة، وبقي البحث عن مصير الفوائد الربوية المتحصلة في حسابه.
الثانية: أن لا يكون هناك حل متاح لإزالة ضرورة الإيداع في البنك أو الحساب الربوي، وأراد أن يعرف الواجب المتعين تجاه هذه الأموال الربوية الزائدة عن الرصيد الأصلي.
ولمعالجة هذه القضية الهامة نقول: هناك أربعة احتمالات يمكن ذكرها هنا، وعرضها للمناقشة قصد الوصول إلى الخيار المناسب للمسلم الواعي الفقيه الذي يخاف ربه، ويتحرى المصالح الشرعية المتاحة.
الاحتمال الأول: سحب هذا المال الربوي والانتفاع به، كأصل المال المودع في الحساب.
وهذا الاحتمال لا يخفى بطلانه وفساده؛ لأن لازم أخذه والانتفاع به استباحة الربا، وهي معصية عظيمة قد تصل إلى الكفر عند قيام مقتضي الاستباحة، وانتفاع مانع الجهل، وقد جاءت النصوص صريحة في تحريم الربا، كقوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ البقرة275
و لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه” [2] وليست هنا ضرورة لأكل الربا في حق شخص يملك رأس مال يسد الحاجة فضلا عن الضرورة.
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: ” أخذ الفوائد البنكية الربوية حرام بلا شك لأنها ربا صريح والله سبحانه حرم الربا وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع المسلمون على تحريم الربا، ومن استحله فهو كافر. ومن الربا الفوائد البنكية ومن قال بحلها فلا عبرة بقوله لأنه مخالف للنصوص. ثم ما كل مفتٍ يكون على مستوى الفتوى فبعض المفتين اليوم جهال بالأحكام الشرعية أو متساهلون بشأن الفتوى وخطورتها.” [3]
قال مقيده: ومع الإجماع على حرمة أخذ هذه الفوائد للانتفاع الشخصي فقد أفتى بعض المفتين المعاصرين بجواز أخذ الفوائد البنكية وأنها ليست من الربا، ،منهم شيخ الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية السابق د.محمد سيد طنطاوي فزعم ” أن فوائد البنوك والمصارف المالية المحددة مسبقاً مباحة شرعاً ولا تعد من الربا المحرم ؛ لأن ذلك يأتي من باب الرحمة والسعة على المسلمين ” ومثله في ذلك فتوى مفتي الديار المصرية الشيخ على جمعة.” [4]
الاحتمال الثاني: ترك هذا المال للبنك يتصرف فيه كما يشاء.
وهذا الاحتمال ممنوع أيضا [5] ؛ لأنه قد ثبت بطرق لا تدع مجالا للشك أن أموال الربا التي يتركها صاحبها للبنك لن يردها البنك لأصحابها من المودعين العملاء، بل غالبا ما يضعها في مواقع قد تكون مضرة بالإسلام لاسيما إذا تعلق الأمر بالبنوك الغربية الكبرى، ففي الهند في عهد الاستعمار البريطاني أنفقت أموال المسلمين الربوية على بناء الكنائس، وعلى الحملات التنصيرية، حتى بنيت كنيسة بنقود فاضت من حساب أحد المساجد! مما أدى إلى إصدار علماء الهند فتوى جماعية بهذا الشأن، فقد كتب مفتي دار العلوم بديوبند الشيخ عزيز الرحمن قبل خمسين عاما يقول: ” إن الفوائد التي ينالها المودعون من المصارف ، هي ربا في الشرع يحرم أخذها، ومن أخذها وجب عليه توزيعها على الفقراء” [6]
وأفتى الشيخ محمد شفيع مفتي باكستان السابق بما نصه: ” ينبغي لمن أودع النقود في المصارف أن لا يترك رباها إليها؛ لأنها تنفقه على التبشير المسحي، بل يأخذه المودع ويتصدق به على الفقراء، ولا يجوز إنفاقه على نفسه.” [7]
هذا: وقد ذهب الشيخ محمد بن الصالح العثمين رحمه الله في شرحه الصوتي لكتاب رياض الصالحين للنووي رحمه الله إلى ما يقتضي ترك هذا المال في البنك، وقال بحرمة أخذه مطلقا، وإن كان بقصد صرفه في المرافق العامة، أو التصدق على الفقراء والمحتاجين مستدلا بقوله تعالى: ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ [8]
كما استند إلى بعض العلل التي سوغت له ما ذهب إليه من الحظر المطلق، وهي :
- أنه قد يأخذه الشح إذا أخرج هذا المال من البنك، فينتفع به. وأجيب: بأن هذا المسلم الذي أراد أن يتوب ويتخلص من هذا المال الحرام يبعد أن يتراجع فيأكله قبل صرفه، مع العلم بأن هذا الشح في حال وجوده لا تلازم بينه وبين إخراج المال من البنك، فقد يغلبه الشح فلا يحسب له حسابا، بل يعده من جملة حسابه المملوك.
- قال رحمه الله: إذا أخرج هذا المال ربما كان قدوة لغيره. والجواب: أنه لا مانع عند القائل بذلك من أن يقتدى به في التخلص من المال الحرام بوسيلة مشروعة.
- ثم ذكر رحمه الله- أن ذلك قد يؤدي إلى عدم إنشاء بنك إسلامي. والجواب: أن الشخص الذي صمم على التوبة والتخلص من المال الحرام لا بد له من البحث عن بديل إسلامي، فكون تصرفه هذا سبيلا إلى إنشاء بنك إسلامي أقرب من كونه عائقا من عوائق إنشائه.
- كما ذكر أن من قال بصرفه إلى الفقراء يكون قابل النص بالقياس.
قال مقيده: ويقصد بالنص – رحمه الله- الآية المذكورة آنفا، والمفتي بجواز صرف الفوائد الربوية في المصالح العامة يرى أنه يمسك رأس ماله ثم يتخلص مما زاد على ذلك على نحو يفيد، فهو مطبق لقول تعالى: ﴿ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ ولم يظلم أحدا بصرف هذا المال للفقراء؛ ذلك لأن البنك لا يملكه، فيرجع إلى مالكه سبحانه ، كما سيأتي بيانه.
ثم أجاب الشيخ على تساؤل ورد من أحد الطلاب: هل لا يمكن صرف هذا المال في المجاري ونحوها؟ فقال – رحمه الله-: إن فعلت ذلك تكون قد وفرت على نفسك مالاً. قال مقيده: وهذا لا يلزم ما لم تكن هذه المجاري ودورات المياه ملكا تابعا لهذا المتصرف، أما إذا كانت تابعة للدولة وللمنفعة العامة فلا يكون قد وفر على نفسه شيئا.
هذا: وللشيخ فتوى تعارض ما قرره في هذا الشرح الصوتي سيأتي ذكره في الاحتمال الرابع إن شاء الله.
الاحتمال الثالث: أخذ مال الربا من البنك وإتلافه؛ لأنه مال حرام لا ينتفع به.
وهذا مذهب قريب من قول الفضيل بن عياض رحمه الله ، قال ابن رجب رحمه الله: ” كان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه ، أنه يتلفه، ويلقيه في البحر.” [9]
وهذا القول رفضه العلماء لكونه مخالفا للأصول الشرعية في وجوب صيانة المال النافع وعدم إضاعته، يقول الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله: ” فالمال النافع لا ذنب له حتى نحكم عليه بالإعدام، فإتلافه إهدار لنعمة الله، وهو عمل أخرق، والشريعة الإسلامية حكمة كلها؛ لأن شارعها حكيم.” [10]
وقال الشيخ السنبهلي:” المال نعمة من الله وليس بنجس بنفسه، والخيانة التي التصقت به إنما هي لأجل اكتسابه من غير طريق شرعي، يستدرك بوجوه أخرى، فإتلافه إهدار لنعمة الله، وهذا حرام.” [11]
الاحتمال الرابع: أخذ هذا المال وتوزيعه على الفقراء والمساكين، وعلى المرافق العامة.
وهذا قول جماهير العلماء المعاصرين، ومقتضى فتاوى السابقين، من فقهاء الأمة.
قال الغزالي:” إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة، والبراءة منه، فإن كان له مالكٌ معيَّنٌ وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويئس من معرفته، فينبغي أن يصرف في مصارف المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه ، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء.” [12]
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل مراب خلف مالا وولدا، وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث، أم لا؟
فأجاب : ” أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه.” [13]
وقال ابن القيم رحمه الله:” من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عوضه، رده عليه، فإن تعذر رده إليه، قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه.” [14]
وقال الشيخ يوسف القرضاوي : ” ما دام هو ليس مالكا له ، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين، أو التبرع به لمشروع خيري…، ذلك أن المال الحرام ليس ملكا لأحد، فالفائدة ليست ملكا للبنك ولا للمودع، وإنما تكون للمصلحة العامة، وهذا هو الشأن في كل مال حرام، لا ينفعه أن يزكى عنه؛ فإن الزكاة لا تطهر المال الحرام ، وإنما الذي ينفعه هو الخروج منه.” [15]
وقال الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله:” إذا كان المودع لدى المصارف الربوية لا يجوز له شرعا أن يستبيح لنفسه أكل الفوائد التي يحتسبها له المصرف، ولا أن يتركها للمصرف، فما التدبير الصحيح ؟
والجواب على هذا السؤال الوجيه: ما أفتيت به وناقشت الكثيرين، هو أن التدبير الصحيح الشرعي في هذه الفوائد ، أن يأخذها المودع من المصرف دون أن ينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع، فعليه أن يأخذ تلك الفوائد التي يحتسبها له المصرف الربوي عن ودائعه لديه، ويوزعها على الفقراء حصرا وقصرا، لأنهم مصرفها الشرعي.” [16]
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء [17]: ” الأرباح التي يدفعها البنك للمودعين على المبالغ التي أودعوها فيه تعتبر ربا ، ولا يحل له أن ينتفع بهذه الأرباح ، وعليه أن يتوب إلى الله من الإيداع في البنوك الربويَّة ، وأن يسحب المبلغ الذي أودعه وربحه ، فيحتفظ بأصل المبلغ وينفق ما زاد عليه في وجوه البر من فقراء ومساكين وإصلاح مرافق ونحو ذلك .” [18]
كما ورد إلى اللجنة هذا السؤال: لي مبلغ من المال في أحد البنوك ، وهذا البنك يعطيني فائدة شهرية ثابتة ، ومن متابعتي لإجابات سماحتكم على الأسئلة المشابهة أفدتم أنها من الربا الصريح ، فماذا عليّ أن أفعل بالفائدة العائدة لي من المبلغ المودع ؟
فأجابت : “ما أخذته من الفوائد قبل العلم بتحريمها فنرجو أن يعفو الله عنك في ذلك ، وأما ما بعد العلم فالواجب عليك التخلص منه وإنفاقه في وجوه البر : كالصدقة على الفقراء والمجاهدين في سبيل الله مع التوبة إلى الله سبحانه من المعاملة بالربا بعد العلم ؛ لقول الله سبحانه : ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البقرة /275″ [19]
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ” أما ما أعطاك البنك من الربح : فلا ترده على البنك ولا تأكله ، بل اصرفه في وجوه البر كالصدقة على الفقراء ، وإصلاح دورات المياه ، ومساعدة الغرماء العاجزين عن قضاء ديونهم ، …” [20]
وسئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – عن حكم الصلاة في مسجد بني من مال حرام؟!
فأجاب: [21] “الصلاة فيه جائزة ولا حرج فيها؛ لأن الذي بناه من مال حرام ربما يكون أراد في بنائه أن يتخلص من المال الحرام الذي اكتسبه، وحينئذٍ يكون بناؤه لهذا المسجد حلالاً إذا قصد به التخلص من المال الحرام، وإن كان التخلص من المال الحرام لا يتعين ببناء المساجد، بل إذا بذله الإنسان في مشروع خيري حصلت به البراءة.” [22]
قال مقيده : ووجه هذه التقريرات العلمية الصادرة من هؤلاء العلماء المحققين رحمهم الله: أن المال مال الله، ولما أصبحت هذه الفوائد الربوية بمنزلة المعطَّل عن ملكية أحد، لا للبنك الربوي ، ولا للمودع، صح أن يرجع إلى مالكه الأصلي وهو الله سبحانه، والفقراء والمساكين هم أولى الناس بمثله، لقوله تعالى: ﴿ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾النور33
وقد يقال إذا كنا ننزه أنفسنا عن أكل هذا المال الربوي كيف نسلمه للفقير والمسكين؟
الجواب: أن هذا المال بالنسبة للفقير والمسكين ليس من الربا أصلا ؛ لأنه لم ينتقل إليه بمعاملة ربوية، إنما انتقل إليه نعمة من الله أعان بها ذلك الفقير، ويسر للمودع سبيلا للتخلص من أكل الحرام.
ومعلوم أن الربا لا يخرج عن نوعيه المعروفين ربا النسيئة وربا الفضل، ولا يوجد أي نوع منهما في هذا المال بالنسبة للفقير.
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
غرة شهر رجب 1431هـ
الهوامش
[1] في الفترة من 7 إلى 9/ 6/ 2010م
[2] رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الربا 11 / 26 مع شرح النووي
[3] راجع فتواه هنا: http://www.islammessage.com/questions.aspx?acid=7&cid=1&qinid=197&qid=4181
[4] انظر حديثه مع مجلة المصارف الكويتية بتاريخ 1 / 10 / 2007.
[5] انظر بحث الشيخ مصطفى الزرقاء المقدم للندوة العلمية المعقودة في جدة 1979م بتنظيم البنك الإسلامي للتنمية، وقضايا فقهية معاصرة للشيخ محمد برهان الدين السنبهلي ص22-23
[6] مجموعة فتاوى دار العلوم 7 / 29
[7] نفس المصدر.
[8] وقفت على هذا الرأي للشيخ رحمه الله حين نبهني إليه أخونا الفاضل الإمام حسن صار. وهو في الشريط 85 من شرح رياض الصالحين.
[9] جامع العلوم والحكم ص268
[10] قضايا فقهية معاصرة ص25
[11] قضايا فقهية معاصرة ص24، وانظر أيضا كلام القرضاوي في مجلة الاقتصاد الإسلامي 1 / 59 بنك دبي الإسلامي.
[12] المجموع شرح المهذب 9 / 351
[13] مجموع الفتاوى 29 / 307
[14] زاد المعاد في هدي خير العباد 5778-779
[15] مجلة الاقتصاد الإسلامي 1 / 59-60 بنك دبي الإسلامي.
[16] الورقة العلمية المقدمة لندوة جدة 1399هـ 1979م
[17] وأكتفي بذكر ما جاء في فتاوى هذه المؤسسة الغنية بالعلماء والباحثين اختصارا؛ علما بأن معظم المجامع الفقهية ذهبت إلى مشروعية صرف هذه الأموال في المصالح العامة، وإنما ضربت صفحا عن المؤسسات التي أباحت أخذها للمنفعة الشخصية.
[18] ” فتاوى إسلاميَّة ” ( 2 / 404 ) .
[19] “فتاوى اللجنة الدائمة” (13 /352)
[20] ” فتاوى إسلامية ” ( 2 / 407 ) .
[21] وهذا هو اللائق بفقه الشيخ رحمه الله، فلعله أراد بذلك الكلام زجر المرابين وحثهم على التوبة، والله أعلم.
[22] مجموع فتاوى ابن عثيمين” (12/ سؤال رقم 304) وانظر: الشرح الممتع له “رحمه الله” ( 4 /344).وانظر : http://www.islamqa.com/ar/ref/75410