الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد :
فهذه توطئة نفتتح بها هذه المقالة الهادفة إلى توضح قراءتنا الخاصة لما يحدث في الساحة الإسلامية هذه الأيام فنقول:
لقد حدثت في التاريخ الإسلامي على مر الزمن حوادثُ وفتنٌ كادت تعصف بالأمة لولا رحمة الله عز وجل ولطفه، ثم حكمة العلماء الربانيين وسعيهم لنزع فتيل الفوضى والدمار بسبب الخلاف والتنافر بين الراعي والرعية.
والأمة لا تستغني عن هؤلاء العلماء الربانيين بأي حال من الأحوال؛ إذ بإرشاداتهم يسترشدون، ومن خبرتهم وحكمتهم ينطلقون..
فالعالم الرباني – كما يقول العلماء- هو الذي يربي على صغار المسائل قبل كبارها، وهذا يعني الوصف بالحكمة في أكثر معانيها عمقا، ويضيف إلى هذه الصفة أوصافا أخرى أهمها:
- الاعتصام بالكتاب والسنة عقيدة وعبادة وسلوكا.
- الاقتداء بالصحابة في فهم الدين، والعمل به.
- الابتعاد عن الابتداع في الدين ، أو الإيمان بالخرافات والخزعبلات الملصقة به.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن يخاف في سبيله لومة لائم.
- التزام الحكمة في الدعوة والنصيحة والحرص على جمع كلمة المسلمين على الحق.
- ومن صفاتهم أن الله يكتب لهم القبول في الأرض ، فكلمتهم مسموعة ،وأوامرهم مطاعة لدى العامة والخاصة؛ لأنهم لا يأمرون بشيء من عند أنفسهم دون مرجعية الشرع الحنيف.. فكأن وجودهم في أي مجتمع صمام أمان يكبح جماح المُفرطين، ويشد من أزر الضعفاء والمفرّطين ليلحقوا بركب الساعين إلى الخير والهدى والنور..
هذا: ومهما تعددت قراءات المحللين للأحداث الخطيرة الدائرة الآن في العالم الإسلامي: في تونس، وفي مصر، والجزائر، واليمن، والأردن، وغيرها فلا يكاد يختلف اثنان في أنها أتت نتيجة تراكمات خطيرة ظلت تتفاقم منذ عقود دون أن يسعى طرفٌ في معالجتها أولا بأول، بل شارك أكثر من طرف في إشعال نيرانها، وإضافة الوقود الشيطاني إليها، حتى صار الأمر إلى ما وصل إليه..
ونحن في قراءتنا هذه نحاول أن نجلي معالم درس قد غفل عنه المحللون،، وعلى الرغم من كثرة الدروس المستفادة من هذه الأحداث يظل هذا الدرس هو الأهم عندي على الأقل، وهو السبب المباشر والمقدمة الأساسية التي مهدت لكل ما يحدث الآن ، وبيان ذلك:
أننا منذ فترة ليست قصيرة شاهدنا كيف تضافرت جهود المناوئين للإسلام ولدعوته الخالصة من الشوائب ، والمنهج النبوي القويم، على عمل موحد هادف إلى إسقاط مكانة علماء الأمة، ومكانة مؤسساتها العلمية والدعوية، في أعين الناس وولائهم، شارك في هذا الإسقاط كتائب العلمنة، وفلول الليبرالية، وبعض الأقلام المأجورة ممن قد ينتسبون إلى الإسلام، فسعى الجميع سعيا حثيثا موحدا للحيلولة دون وجود مرجعية لأهل السنة تحظى باحترام الجميع، ويسمع كلمتها القاصي والداني، ولا يجرؤ على مخالفة توجيهاتها إلا مبتدع ظهرت بدعته، أو منحرف شاع بين الناس انحرافه،، مستخدمين شتى الوسائل وخاصة وسائل الإعلام من مقروء ومسموع ومشاهد لتنفيذ مخططاتهم القذرة.
وساعدت على ذلك الحرب الشرسة التي قادها الغرب تحت مسمى مكافحة الإرهاب، وهي حرب جاوزت أضرارها الإرهابيين ونالت كل العاملين للدعوة الإسلامية السنية بشكل أو بآخر، من غير استثناء، وأكثر الناس تضررا بها هم علماء الأمة وقادة دعوتها الجادون الذين لا صلة لهم بالإرهاب؛ إذ لا ضرر أعظم وأنكى من إلصاق تهمة كبيرة كتهمة الإفساد في الأرض برجل أمضى من عمره ما أمضى في محاربة الفساد والإجرام بكل أنواعه.
فنتج عن إقصاء علماء الأمة ومؤسساتها الكبرى نتائج مدمرة أدت إلى أحوال في غاية الخطورة ، ولعل من أبرزها:
1. تخويف الحكومات من الدعاة والعلماء فوُضعوا – في كثير من البلدان- تحت المراقبة والتضييق، بل والسجن والتشريد، والقتل، وكثيرا ما تعمل وسائل الإعلام على تشويه صورتهم والتقليص من أثرهم والتقليل من شعبيتهم.
2. إسقاط كثير من الهيئات والمراكز الإسلامية ذات الصبغة المرجعية عن مكانتها وهيبتها.
3. فقدان معظم الحكام ذاك العالم الرباني الناصح الذي يأخذ بيد الحاكم ناصحا ومرشدا،آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، بعيدا عن الأغراض والمزايدات ، مقدما مصالح الأمة على المصلحة الشخصية.. وقد كان للعلماء الربانيين أثر بالغ في نصح الحكام وتهدئتهم، فيعودون إلى رشدهم، فتندفع بذلك فتن كثيرة: فلما أراد الخليفة المنصور خراب المدينة لإطباق أهلها على حربه مع محمد بن عبد الله بن حسن، قال له العالم الرباني جعفر بن محمد: «يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب أبتلي فصبر، وإن يوسف قدر فغفر، وقد جعلك الله عز وجل من نسل الذين يعفون ويصفحون، فطفئ غضبه وسكت وقال: لولا هذه النصيحة لأطبقت عليهم».
4. انكماش دور العلماء في ضبط المجتمع والسعي لإخماد فتن العامة، وذلك إما لفقدانهم الشعبية بفعل المناوئين، وإما لامتناعهم عن التدخل فيما يحدث وإن كان وراءهم أممٌ من الناس يسمعون لهم ويطيعون؛ لأنهم أوذوا فقابلوا الأذى بالتفرج على ما يحدث للأنظمة.
5. تحول بعض العلماء عن المنهج الوسط إلى الإفراط والغلو لاعتقادهم أنهم ظلموا ومن حق المظلوم أن يأخذ بيد الظالم، أو إلى التفريط والمداهنة وترك الدعوة، وقد يرجع بعضهم إلى انحرافات طالما دعا إلى محاربتها.
6. تجرؤ الشباب على الدعاة والتقليل من شأنهم، وفي مقابل ذلك الاعتداد بأنفسهم وعدم السماع من أحد ، ومن ثم الإقدام على خوض المخاطر والفتن دون أخذ بنصيحة ناصح، أو استرشاد بإرشاد مرشد، وسمعنا من المتظاهرين في مصر ما يؤكد بُعد الناس عن الأخذ بتوجيهات أهل العلم، كشعار ” عاش الهلال مع الصليب” الذي رفعت به الألوية والأصوات..في الميدان! كما أن عددا من شباب المسلمين أقدموا على إحراق أنفسهم، وهو انتحار لا مسوغ له في الإسلام.
7. افتقار الأمة إلى قيادات علمية تأخذ بزمام المبادرة فيهم، فتحولت المبادرة إلى العامة والدهماء، والغوغائيين ، الذين لا ينتظر منهم تقدير المآلات، ولا المقارنة بين المصالح والمفاسد، فهذا الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – وقد قام الخليفة بتعذيبه ومن يقول بأن القرآن غير مخلوق؛ فضاق الناس والجماهير ذرعا بالحاكم وانزعجوا، فذهبوا إلى أحمد بن حنبل حتى يعطيهم الإذن في الخروج عليه، فقال لهم: «عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى تستريحوا أو يستراح منه»؛ فهدأ الناس وعادوا إلى رشدهم وعلموا أنها فتنة ستزول.
8. ثورات عارمة غير مدروسة ولا معروفة التوجه، هي أشبه ما تكون بعربات قطار جنحت عن مسارها ، ودخلت في مناطق السكن الكثيفة، تاركة رأسها وراءها ، فلا يعرف ما تصير إليه الأمور في هذه الأحداث إلا الله عز وجل ، يقول ابن تيمية رحمه الله : ” لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته” [1]
قال العلامة الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله -: «… وهذه المسألة من أخطر ما يكون على العامة وعلى ولاة الأمور وعلى الجميع؛ لأن الناس إذا شحنت قلوبهم ببغض ولي الأمر فسدوا وصاروا يتمردون على أمره ويخالفونه، ويرون الحسنة منه سيئة وينشرون السيئات ويخفون الحسنات، وإذا زيد على ذلك التقليل من شأن العلماء فسد الدين أيضا، فتمردُ الناس على الأمراء اختلالٌ للأمن، وتمرُّدُ الناس على العلماء فسادٌ للشريعة؛ لأن الناس إذا لم يثقوا بعلمائهم بشريعة الله فبمن إذاً يثقون؟ بالجهال؟! أو كل واحد من الناس سيركب رأسه ويفتي نفسه بنفسه، وهذا لا يستقيم». [2]
ومن تأمل هذه الأحداث حق التأمل يدرك – ولا بد – خطورتها، فقد رأينا كيف أن الدول الكبرى هي وحدها التي تعلن اهتمامها بما يجري وتعقد الاجتماعات وتلقي بالبيانات والتصريحات، استعدادا لفرض أجندتها واستراتيجياتها على كل نظام يأتي بعد سقوط الأنظمة المستهدفة، ومن يدري يا ترى هل الآخرة خير للشعوب أو الأولى.
خلاصة الأمر : أن هؤلاء الحكام لما حاربوا العلماء الربانيين وأصبحت الساحة خالية منهم ، سلط الله عليهم هذا الطوفان الذي لا مرد له إلا الله، فقد كانت كلمة واحدة من عالم رباني مطاع كافية في إرجاع الخارجين إلى بيوتهم عندما كان الأزهر هو الأزهر، وشيخ الأزهر هو شيخ الأزهر، وعندما كان المفتون على شاكلة ابن عاشور يقولون للحاكم: لا للظلم، فلا يسعه إلا الطاعة، ويقولون للشعب : لا للفوضى والدمار فينصاع :ومن يثني الأصاغرَ عن مرادٍ ….. إذا جلس الأكابرُ في الزوايا
فصدق فيهم المثل العربي القائل:(على نفسها جنت براقش)
أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يولي على المسلمين خيارهم، ويدفع عنهم شرارهم، وأن يوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم على الحق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
غرة ربيع الأول 1432هـ
الهوامش
[1] منهاج السنة النبوية: 3 / 390
[2] (لقاء الباب المفتوح)