إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه و على آله و أصحابه أجمعين... أما بعد: فإن من الأمور الفطرية التي اعتنى الإسلام بتنظيمها وترسيخ قواعدها النكاح، ولذا حرص كثير من إخواننا على أن نفرد مجموعة من الخطب لهذا الشأن العظيم، وتلبية لهذه الرغبة ونظرا لأهمية هذا الموضوع العظيم سوف أخصص سلسلة من الخطب لذلك بعنوان:
النكاح :أحكامه وآدابه
ومعنى النكاح في الشرع: (( تعاقد بين رجل وامرأة يقصد به استمتاع كل منهما بالآخر، وتكوين أسرة صالحة ومجتمع سليم. )) ومن هنا نأخذ أنه لا يقصد بعقد النكاح مجرد الاستمتاع، بل يقصد به مع ذلك معنى آخر هو ( تكوين الأسرة الصالحة، والمجتمع السليم ). حكمة النكاح: النكاح باعتبار ذاته مشروع، مؤكد في حق كل ذي شهوة قادر عليه، وهو من سنن المرسلين قال الله تعالى:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد:38]. وقد تزوج رسول الله وقال: (( إني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. )) [1] ولذلك قال العلماء: (( إن التزويج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة، والآثار الحميدة. )) وقد يكون النكاح واجباً في بعض الأحيان، كما إذا كان الرجل يخاف على نفسه من الوقوع في الحرام إن لم يتزوج، فهنا يجب عليه أن يتزوج؛ لإعفاف نفسه وكفِّها عن الحرام. ويقول النبي : (( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. ))
الخِطبة وآدابها: إذا عزم الراغب على الزواج من المرأة لزمه أن يتقدم لطلب يدها من وليها، ولذلك آداب مستحبة وواجبة يلزم الطرفان التزامها،وهذا ما سأتطرق إليه:
1- معنى الخطبة في الشرع: طلب الزواج ممن يعتبر منه، وهي اتفاق مبدئي عليه، ووعد بالزواج ، وتعتبر الخطبة أولى خطوات الزواج.
2- الاستخارة : الزواج من الأمور المهمة في حياة المسلم والمسلمة ، وإذا عزم على الخطبة فعليه استخارة الله تعالى، لقوله عليه الصلاة والسلام: (( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ" [2] ويصلى العبد صلاة الاستخارة في أي وقت شاء ، ركعتين ، ثم بعد التسليم يدعو بهذا الدعاء ، وله أن يكررها ؛ إذ لا حرج في تكرار الدعاء ، ولا يلزم بعد الاستخارة أن يرى العبد رؤيا ، بأن يرى إما التيسير أو عدمه ، أو الراحة النفسية للأمر والإقدام عليه أو عدمه، وتصلى المرأة كذلك هذه الصلاة .
3-الاستشارة :فيستشير من لديه الخبرة في أمور الزواج، ومن لديه معرفة بمن يريد الزواج منها، وكذلك المرأة،وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما يستشير أصحابه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ." [3] وقال الحسن :" الناس ثلاثة: فرجلٌ رجل , ورجلٌ نصف رجل , ورجلٌ لا رجل , فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة , والرجل نصف الرجل الذي له رأي ولا يشاور , والرجل لا رجل فالذي ليس له رأي ولا يشاور ." [4] وقال الورّاق :
إن اللبيب إذا تفرق أمره * * * فتق الأمور مناظراً ومشاورا وأخو الجهالة يستبدّ برأيه * * * فتراه يعتسف الأمور مخاطرا
وعلى المستشار أن يكون أمينا،لا يكتم عيبا يعلمه، ولا يذكر عيبا غير موجود استجابة لأغراض فاسدة، ولايحدث أحدا بالاستشارة أصلا.
4- النظر إلى المخطوبة : قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( إذا خطب أحدكم امرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. )) [5] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أَنَظَرتَ إِليْهَا ؟ )) قال : لا . قال : (( فَاذهَبْ فانظُر إِلَيْهَا فإِنَّ في أَعين الأنْصَار شيئاً. )) [6] قال النووي رحمه الله : "فيه استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها " [7]
5- ولا يجوز لهما تبادل الصور بأي وسيلة كما يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، حيث قال: لا أرى هذا : أولا : لأنه قد يشاركه غيره في النظر إليها . ثانيا : لأن الصورة لا تحكي الحقيقة تماما ، فكم من صورة رآها الإنسان فإذا شاهد المصوَّر وجده مختلفا تماما . ثالثا : أنه ربما يعدل عن الخطبة وتبقى عنده هذه الصور يلعب بها كما شاء .
6- لا يجوز الخلوة بالمخطوبة ولا الخروج معها ، وذلك لأنها مازالت أجنبية عنه، وكثير من المسلمين اليوم ترك العنان لمحارمه وبناته يخرجن مع الخطيب ،بل وحتى السفر معه، وكأن الخطوبة أصبحت زوجة.
7- يجوز التحدث مع المخطوبة بالهاتف والمراسلة بالبريد العادي والإلكتروني للتفاهم على العقد والشروط، إذا كانت الرسائل خالية من العبارات العاطفية التي لا يجوز أن تكون بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، ومعلوم أن الخاطب أجنبي عن مخطوبته ، حتى يعقد، وإذا كان بعلم أبويها فهو أولى.
8- لا يخطب على خطبة الغير بغير إذنه ، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك )) [8] وإذا لم يعلم الثاني بالخطبة جاز ، وللمرأة أن تختار أحدهما ما دامت لم تعط كلمتها للأول...
9- يحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة أو المبانة ويباح التعريض ، لقوله تعالى :﴿ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ﴾ [البقرة: الآية235] وأما المطلقة طلاقا رجعيا فتحرم خطبتها أو التعريض عليها، كما يحرم عليها إجابة غير مطلقها لأنها ما زالت في حكم الزوجة. والتصريح : كأن يقول أريد أن أتزوجك ، والتعريض كأن يقول : إني في مثلك راغب، ونحو ذلك.
10- سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: عن حكم لبس دبلة الخطوبة فقال : (( دبلة الخطوبة عبارة عن خاتم ، والخاتم في الأصل ليس فيه شيء إلا أن يصحبه اعتقاد كما يفعله بعض الناس يكتب اسمه في الخاتم الذي يعطيه مخطوبته ، وتكتب اسمها في الخاتم الذي تعطيه إياه زعماً منهما أن ذلك يوجب الارتباط بين الزوجين ، ففي هذه الحال تكون هذه الدبلة محرّمة ، لأنها تعلّق بما لا أصل له شرعاً ولا حسّاً ، كذلك أيضاً لا يجوز في هذا الخاتم أن يتولى الخاطب إلباسه مخطوبته ، لأنها لم تكن زوجه بعد،فهي أجنبيّة عنه ، إذ لا تكون زوجة إلا بعد العقد [9]
11- لا يجوز رد الكفء ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) [10] أيها المسلمون تمسكوا نسنة نبيكم، واقتدوا بهديه.
اللهم فقهنا في الدين، وجنبنا الزلل والشين، ونق قلوبنا من الرين، وحل أقوالنا وأفعالنا بزينتك التي ما بعدها زين، وصل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
(الحمعة 21 ربيع الثاني 1430هـ)
[3] أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
[4] المستطرف في كل فن مستظرف ،لشهاب الدين الأبشيهي 1/166.
[5] رواه أحمد وصححه الألباني.
[9] الفتاوى الجامعة للمرأة المسلمة
[10] رواه الترمذي وحسنه الألباني
|