على هامش الأحداث

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد:
إن هذه الأحداث النازلة بالأمة الإسلامية هي إحدى كبريات المخاطر التي مرت بها الأمة منذ استقلالها وجلاء الاستعمار الغربي الغاشم عن أراضيها، وهي تمثل منعطفا خاصا يحتاج تجاوزه إلى وجود قيادات علمية راشدة تقرأ الأمور بعمقها المستحَق على ضوء الأصول ومعطيات النصوص المستفادة من الكتاب والسنة والسيرة والتاريخ إلى جانب فهم الواقع المعاش فهما يمكنها- القيادات – من إنزال النصوص على الواقع، ورد الفروع إلى أصولها.
و مع أن الأمة لا تخلو من هذه القيادات العلمية في وقتنا الراهن إلا أن الطابع الغالب على تنظيرات وتصرفات المفكرين والكتاب الإسلاميين يدل إما على عدم تقدير الظرف حق قدره، وإما على عدم الدقة في تطبيق الدارسات على الواقع.
ينضوي تحت هذا المنعطف الكثير من الفساد الآني، وتدمير مكتسبات عقود مضت مقابل انفراج مظنون – ظنا لا يغني من الحق شيئا -، يصطدم بأجندة قوم آخرين يسعون لبسط سيطرتهم، وإقامة ما سمي بشرق أوسط جديد يقوم على أساس تقسيم المقسَّم وتفريق المفرَّق، فكان المتوقع من كبار الدعاة والقادة الإسلاميين أن يدركوا حقيقة الظرف وما ينطوي تحته من غيوم وتداعيات فيسعوا إلى لم الشمل ، والحث على صدق التوجه إلى الله، والاستماع إلى استشارات مفكري الأمة وعلمائها من كل الفئات، وعدم إقصاء طرف أو رأي مادام يستند إلى دليل، لكن أبى بعض الناس إلا جعل هذه الأحداث مادة لتمزيق ما تبقى من آمال التقارب بين الأطياف المنتمية إلى السنة، ومحاولة ضم هذا الخيال الذي يشبه الانتصار إلى طائفة دون أخرى، ويعلم الله أن هذه الجماعات الإسلامية – التي تجتمع اليوم في خلواتها لتغني بالانتصار- ليس لها أي مبادرة في تحريك هذه الشعوب لا في تونس ولا في مصر..بل كانت هذه الأحداث أطول منها قامة.. وأعلى سقفا..
وآلمني بهذا الصدد ما صدر من الدكتور يوسف القرضاوي رئيس ” الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” في ندوة الاتحاد الشهرية في دوحة، حيث قال بالحرف : “السلفية المتعصبة والصوفية اتفقتا على تسفيه الثورات العربية عبر الترويج لثقافة سامة تربط الفتنة بالخروج على الحكام”.
فكان المتوقع ممن يرأس اتحادا موصوفا بأنه للمسلمين أن ينأى بنفسه عن التحزب إلى فئة، في وقت يرمي فيه غيره بالتعصب، وفي تلك الندوة وردت تصريحات كثيرة أقل ما يقال فيها أنها غير مسئولة، وإلا فما معنى قول القرضاوي: “إن مبدأ دينية الدولة ليس من الإسلام” وقوله: “إن ما يقوم به الشباب العربي حاليا ليس من الفتنة في شيء لأن الإسلام يأمر بإزالة الظلم الذي يمارسه الحكام في أبشع صفاته”؟. وما معنى قوله: إن الظلم وإضاعة حقوق الناس يجيزان للشعوب الخروج على حكامها، وأن تحقيق الحرية مقدم على تطبيق الشرع في الإسلام.” ؟
هذا الكلام لو لم أقف عليه بنفسي – في موقع الجزيرة وغيره- لترددت في قبول كونه من الشيخ القرضاوي؛ إذ كيف يكون تحقيق الحرية مقدما على تطبيق الشرع ، أليس الشرع هو الذي يحقق الحرية الحقيقية..؟
وفي الندوة نفسها يقول الأمين العام للاتحاد الدكتور علي محيي الدين القره داغي: إن الثورات الشعبية جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”
وما أظن أن عالما من علماء السنة يقول إن الثورة – وليس التظاهر- وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هذا أحد أصول المعتزلة الخمسة المعروفة.
جملة القول أنه كان على هؤلاء الشيوخ وهم على رأس هذا التنظيم الذي ينسب إلى “علماء المسلمين” أن يكونوا على قدر المسئولية فيدعوا إلى عقد مؤتمر عام للعلماء والمفكرين والدعاة والمثقفين لمدارسة هذه الأوضاع بكل تجرد بعيدا عن المؤثرات والانتماءات والأحكام المسبقة.
ولست أظن أن أحدا من أسوياء البشر يؤيد الظلم أو يرجو بقاءه، فالظلم والاستبداد الواقع في الأمة يجب أن يزول ، بل على المسئولين كلٌّ بحسب سلطته أن يبذلوا قصارى جهدهم في محاورة الناس وفتح أبوابهم لسماع شكاواهم، وأن يضعوا حلولا جذرية حاسمة لها، وفي الوقت ذاته ينبغي الاعتراف بأن الخطر الداهم هو أن تلك الثورات ليس لها خطة مدروسة لما بعدها ، مما يدل أنها لو نجحت ستتوقف عند حد إسقاط النظام وإحلال الفوضى محله، فتبدأ حينئذ الصراعات الحزبية، والنعرات القومية، والنزاعات الطائفية، ولا يخفى أن ثمت من هو جاهز للنفخ في الكير وتأجيج النار، ثم السعي لقطف الثمار..
فهناك الشيعة متمركزة في أكثر من بلد من بلاد المنطقة تنتظر الفرصة للانقضاض في الوقت المناسب، إلى جانب طغيان القبلية والعشائرية على تركيبة عدد من شعوب المنطقة، زد عليه أن الغاضبين من الشباب العاطلين عن العمل، مع عدد كبير من العمالة الوافدة التي تمثل ثلث السكان في بعض بلدان المنطقة كل ذلك يمثل قنبلة موقوتة إذا انفجرت سوف تقضي على الأخضر واليابس،حيث يعم الفوضى والقتل والنهب ،، وما يجري في ليبيا الآن خير شاهد على ما أقول..

وأخيرا : أوصي نفسي وإخواني المسلمين في كل مكان أن يحرصوا على تربية الأنفس على الصبر والتقوى، والتوبة إلى الله، وتصحيح المسار بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام،، وأن يعلموا أن النصر والتمكين سيأتي لا محالة لكن بتوفر شروطها،، وأن لا يفوتهم الجمع بين الخوف والرجاء تجاه ما يجري الآن في الساحة ؛ فإنه ليس بالضرورة أن يكون من بوادر التمكين الذي وعد به المولى عز وجل، فقد يكون عقوبة من الله لكثرة المعاصي والظلم والطغيان والفساد في الأرض، قال عز وجل: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [1]

وإلى اللقاء في مقالة قادمة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
غرة ربيع الآخر 1432هـ


الهوامش

[1] الأنعام :65