بين عدالة الإسلام ومساواة أهل الأوهام

لقد جاء الإسلام بالعدل وهو من أعظم مبادئه، وبه قامت السماوات والأرض، وله خلق الإنس والجن، ومعناه وضع الأمور في مواضعها، وأساس العدل وضع حق العبادة في موضعه بألا تصرف العبادة لغير مستحقها سبحانه وتعالى، ثم وضع حق الوالدين في موضعه ببرهما والإحسان إليها، ومن ثم جميع الحقوق الاجتماعية القائمة بين الوالد وأولاده، وبين الإخوة وإخوانهم، وبين الراعي والرعية بأن يحكموا بالعدل،، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ النساء58 إلى غير ذلك من صور العدالة الاجتماعية، والقانونية.
ومثل ذلك العدل في المعاملات فلا ضرر ولا ضرار، ولا ظلم ولا طغيان ولا تعدي في أموال الناس وأعراضهم. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ المائدة 8
ومن صور العدالة التي رسَّخ الإسلام دعائمها، ورفع قواعدها، العدل بين الزوجات.
﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ النساء3
وأما المساواة التي ينادي بها الغرب وأذنابهم فليست تعبيرا عن العدالة في الإسلام ولا قريبة منها، فالعدالة الإسلامية هي التي تشتاق لها النفوس ،وتنشرح لها الصدور، وتتفتح لها القلوب، ألا ترى أن النفوس البشرية وقلوبها تحب أن تحفظ عن الظلم، وتصان عن الضيم، وأن تكرم وتعزز، بينما المساواة الغربية لا تعدو كونها نظرية غير قابلة للتطبيق.
ومن أبرز صور المساواة المزعومة عندهم المساواة بين الرجل والمرأة ، وهي فكرة آمنوا بها وعملوا على تصديرها لا سيما إلى دول العالم الثالث وخاصة الدول الإفريقية ، وفي الآونة الأخيرة صوت البرلمان السنغالي بأغلبية الحزب الحاكم على إدخال نظام المساواة أو ما عرف بـ “التكافإ بين الرجل والمرأة” (parité) بحيث تتكافأ الفرص بينهما في الوظائف، واتخاذ القرار، على كل المستويات، وفي كافة الأصعدة.
ودار العديد من النقاشات حول هذه المسألة بين فئات المجتمع المختلفة في رؤاها وانتماءاتها، وكان للإسلاميين نصيبهم في هذا النقاش كالعادة، ولئن كان هناك من نظرة حول القضية كفرد من أفراد هذه الأمة ففي النقاط التالية:

1- بعض المناصرين للفكرة مع أنهم مسلمون زعموا أن هذه المسألة لا ينبغي مناقشتها تحت منظور إسلامي ، بحجة أن المسلمين – وإن كانوا يمثلون أغلبية سكان السنغال ببلوغ نسبتهم 96% غير أن الدولة لا تتبنى الحكم بالشريعة الإسلامية ، وهؤلاء الأربعة بالمائة لهم حقوقهم المدنية طبقا للدستور العلماني، فلا ينبغي أن نلزمهم الاحتكام إلى الإسلام.
وهو كلام طالما رددوه وقرعت أصداؤه آذان السامعين ، في كل مناسبة يعلن فيها مسلم اعتزازه بدينه واعتصامه بمبادئه، لكن من يقولون هذا الكلام نسوا أو تناسوا أن هؤلاء التسعة والتسعين أيضا لهم حقوقهم ، وحسب هذا المنطق لا يجوز إلزامهم بما يخالف مبادئ يؤمنون بها، والعلمانيون يقولون إن من معاني العلمانية المتبناة تحكيم الأغلبية.
وإذا كان هذا الشعب في أغلبيته المسلمة رفض قوانين الأسرة التي جاء بها النظام منذ ما يزيد على أربعة عقود، فهل يعقل أن يتحول بين عشية وضحاها لتقبل مثل هذه المبادئ الأجنبية التي لا تمثل قضية ذات بال تحت دائرة التطبيق.

2- إن المنادين بمبدإ التكافأ هذا يركزون دوما على ضرورة وضع امرأة بجوار كل رجل في دوائر صنع القرار ، فيبقى السؤال : لم لا تخرج الفكرة عن تلك الدائرة الضيقة المريحة إلى دوائر أخرى يحتكرها الرجال وهي أوسع نطاقا وأكثر بذلا وتضحية في سبيل خدمة المجتمع؟ كدوائر سفلتة الطرق، وحفر المجاري، ونقل الزبالة بالمعدات الثقيلة؟ لم نسمع قط امرأة من أهل الثرثرة أشارت إلى المطالبة بمكانة بين الرجال العاملين في هذه الميادين وما شابها، وهذه الحقيقة تفسر لنا أمرين اثنين:
أحدهما: اعتراف عملي صريح بالفوارق الفطرية التي فطر الله الناس عليها رجالا ونساء ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾
ثانيهما: برهان صارخ على أن المسألة ترجع إلى مرتكزات الأصل العلماني الذي ينظر إلى الوظائف الإدارية كمنح وأوسمة شرفٍ يتنافس فيها المتنافسون ويتقاتل عليها المتقاتلون، وليس تكليفاً وعبء ثقيلاً، ومسئوليةً يخافها أهل التقوى وأهل المغفرة.

3- أنه لا تلازم بين العدالة والمساواة: ففي منظور الإسلام الناس متساوون في أصل التكليف بتحقيق العبودية لله، وأما ما سوى ذلك فلا مساواة فيه،بينما يبقى العدل مطلوبا باستمرار، وسمة مستديمة لا يجوز أن يتخلف أصلا، ألا ترى الفوارق العظمية في التكليف بالعبادات : بينما تجب على زيد أداء الصلاة أربع ركعات يجوز لعمرو أن يصليها ركعتين، وبينما يلزم بكرا أن يصوم أداء يجوز لغيره أن يؤجل الصوم ثم يصومه فيما بعد قضاء، وهكذا..
وعلى هذه السنة الربانية تجري شئون الناس حتى في خلقتهم: فهذا طويل فارع الطول وهذا أحد الأقزام ، وهذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح سليم البدن، وهذا لا يكاد يفارقه المرض، فلا مساواة بين الرجل والرجل، ولا بين المرأة والمرأة، بله بين الرجل والمرأة، لا في الدنيا ولا في الآخرة، هذا خلق الله، وهذه حكمته شئنا أم أبينا، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ الأنعام 165
وفي شأن الآخرة يقول سبحانه: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ الإسراء21
حتى أنبياءه ورسله ليسوا على مرتبة واحدة وإن كان يجمعهم خاصية النبوة والرسالة فهم متفاوتون في ذلك تفاوتا عظيما ، اقرأ قوله تعلى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ البقرة 253
وعلى هذا ليس من العدل أبدا الحكم بالمساواة المطلقة بين جنس وآخر فإنه ظلم ، مثله كمثل من يساوي بين نسائه في قياسات اللباس والأحذية مع اختلافهن طولا وعرضا.

4- من حكمة الله سبحانه أن يجعل لكل من الرجل والمرأة وطائف هي أليق وأولى وأكثر تناسبا مع كل منهما تلبية لطبيعة هذا الجنس أو ذاك، وهذا أمر جار على السنن الربانية فليس الذكر كالأنثى في القدرة على العمل، وعلى الصبر والمثابرة والتضحية، والذي ينكر ذلك إنما ينكره مكابرة بالقول لا بالفعل، واسأل الغربيين الذين رفعوا لواء (parité) كم امرأة تولت رئاسة دولهم منذ قيامها وكم رجلا؟ وكم عندهم من نساء قائدات للجيوش المصيرية وكم رجلا؟ وكم رجلا من رؤساء الأحزاب السياسية والمجالس النيابية وكم امرأة؟ ستجد الفارق العددي كبيرا جدا، لماذا؟ لأن هذا خلق الله، وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها؟
خلاصة الكلام أن من الظلم التسوية بين المفترقات، والتفريق بين المستويات، فالمساواة المطلقة ظلم فادح، والعدل يعني إعطاء كل ذي حق حقه الطبيعي حسب قدرته وعطائه، قال تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ ﴾ البقرة 228
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ النساء 32

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
غرة جمادى الثانية 1431هـ